محمد قاسم خضير
لو ضربت الكرة البيضاء في لعبة البليارد لتصطدم بالكرات الأخرى كي تدخل إحداها في الفتحة لوجدت نفسك تعاين الكرات بدقة حتى توجه الكرة البيضاء بالاتجاه الصحيح. عندها تنظر إلى الكرة البيضاء وتقول: "إذا استطعت أن أضرب الكرة هذه من هذه الزاوية فبذلك أوجهها إلى الكرة الحمراء (على سبيل الفرض) لتضربها من تلك الجهة، بعدها ستتوجه الكرة الحمراء لتضرب جدار الطاولة وترجع وتدخل في الفتحة الأخيرة."
بهذه الطريقة أنت حددت المسار (الموقع) الذي ستتخذه الكرات والقوة اللازمة (الزخم أو السرعة) لإدخال الكرة الحمراء إلى الهدف. وهذين المعلومتين (الموقع والزخم) تكفيان لمعرفة النتيجة النهائية أو تكفيان للتنبوء بمستقبل الكرات في لعبة البليارد. ونستطيع أن نقيس على ذلك كل متحرك، فنقول لو أن لدينا معلومات كافية عن الهواء مما يتكون من ذرات وجزيئات وعن مواقع وزخم هذه الجسيمات لكان بإمكاننا التبوء مائة في المائة عن حالة الطقس (طبعا مما يختص بالهواء فقط). ما علينا إلا أن نحسب باستخدام القوانين النيوتونية (باستخدام كمبيوتر متطور جداً) اتجاه الجسيمات في الهواء واصطداماتها ببعضها وتغير مساراتها ومن ثم حالة الهواء هذا في المستقبل وما إذا كان سيعصف أو سيهدأ وإلى أين سيتجه.
هذا ما تنص عليه القوانين النيوتونينة، فتقول هذه القوانين أنه عند معرفتنا لكل المعلومات المتوفرة عن الجسيمات المتحركة لأمكننا التنبؤ بمستقبل الأمور. كل هذه المعلومات كانت صحيحة إلى أن أتى العلم الجديد المسمى بالميكانيكا الكم Quantum Mechanics. ومن أبرز روادها العالم ورنر هيزنبيرج Werner Heisenberg والذي استخرج نظرية مبدأ الريبة Uncertainty Principle في عام 1927 والذي يقول أنه لا يمكن قياس الموقع والزخم لأي جسيم بدقة متناهية، وإنه كلما كان قياس أحد المتغيرين (الموقع أو الزخم) بدقة أكبر كلما كان قياس المتغير الآخر مشوباً بالخط أكثر. أي إذا قسنا مثلا موقع إلكترون في لحظة من اللحظات، وأردنا أن نعرف قيمة الزخم في تلك اللحظة لكان من الصعب معرفة هذه القيمة بوضوح، والعكس بالعكس.
لنوضح هذه الفكرة أكثر بهذا المثال: لو أننا أردنا أن نقيس موقع الإلكترون في وقت ما، فإننا سنطلق عليه الضوء ليضرب الإلكترون وينعكس منه ليخبرنا عن مكانه، عندها نعرف أين كان الإلكترون. الآن نأتي ونقول "ما هي قيمة زخم أو سرعة الإلكترون في اللحظة التي عرفنا فيها موقعه؟" هنا نكتشف أنه لا يمكننا معرفة هذه المعلومة عن الإلكترون وخصوصاً أن سرعته تغيرت بسبب ضرب الإلكترون بالضوء. عندما أصاب الضوء الإلكترون تغيرت سرعته بقوة دفع الضوء له (في الحقيقة هناك مبالغة في التصوير لتوضيح مبدأ الريبة). وتستطيع أن تقيس على هذا المثال كل شيء، فالإلكترون إنما هو يمثل كل الأجسام وإن كانت تتفاوت في الحجم.
منا من يقول أنه إذا أصبحت لدينا أجهزة دقيقة وأفضل مما هو عليه الآن لاستطعنا معرفة المتغيرين (الموقع والزخم) بدقة أكبر، أليس كذلك؟ الجواب هو لا، وسبب ذلك أن مبدأ الريبة إنما هو حقيقة كامنة في كل الأجسام وليست عجز في الإمكانيات (للتعرف أكثر على هذه المعلومة عليك عزيزي القارئ بالبحث في النظريات التي تتكلم عن الخاصيتان الموجية والجسيمية للأجسام). الحقيقة أنه لا يمكن أن نعرف هذين المعلومتين مهما صنعنا. كالذي يتحدى أقوى الناس بأن يقذف ريشة ليوصلها مسافة أبعد من الصخرة التي يقذفها شخص عادي القوة. صحيح أن الريشة أخف من الصخرة وأن الشخص الأول أقوى من الشخص الثاني ولكن المشكلة أن الريشة لا يمكن لها أن تصل إلى مسافات بعيدة (بالطبع بسبب وزن الريشة مقابل الهواء المعاكس).
ماذا يعني كل هذا؟ هذا المبدأ يتكلم عن نقطة مهمة يتكلم عنها الله عز وجل، وهي أن الغيب إنما هو موضوع يختص بالله وحده، وأنه لا أحد غير الله يستطيع معرفة الغائب عنا في المستقبل إلا إذا أراد الله ذلك. يقول الله في كتابه العزيز (بسم الله الرحمن الرحيم):
وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين (الأنعام ـ 59)
فنحن مهما تقدمنا في العلم فلن نستطيع التعرف على مستقبل الأمور، وهذه حقيقة علمية. والله يقول في هذه الآية أنه هو الذي عنده مفاتح الغيب وأنه لا يعلمها سواه وقد دل العلم على ذلك كما وضحت سابقاً. وأكثر من ذلك أن العلم اليوم لا يقف عند حد القول أننا لا نستطيع التعرف على الغيب في العصر الحالي ولكن يقول "أننا تبعاً لهذه القوانين لن نستطيع أبداً معرفة هذه الحقائق مهما تقدمنا في العلم." وإن كنا نرى أن بإمكاننا التنبؤ بحالة الطقس بدقة أكبر من السابق فهذا لا يعني أنه بإمكاننا التجاوز إلى حد المعرفة المطلقة. إنما نحن الآن في حالة تحسين للأدوات الموجودة اليوم إلى أن نصل إلى الحد الفاصل الذي وضعه الله للتعرف على غيبيات الأمور.
بالطبع فإن الأنبياء والرسل والأئمة يستثنون من هذه القاعدة. صحيح! أنهم لا يستطيعون معرفة الأمور المستقبلية لوحدهم ولكن الله سبحانه يطلعهم عليها، فهم يكررون مراراً للناس أنهم لا يعرفون الغيب، ففي القرآن الكريم الكثير من الآيات التي تدل على ذلك ومنها (بسم الله الرحمن الرحيم):
عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا، إلا من ارتضى من رسول... (الجن ـ 26-27)
قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب... (الأنعام ـ 50)
قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء... (الأعراف ـ 188)
إذا فإن الغيب من الأمور المختصة بالله عز وجل فقط، ولا مجال لنا أن نصل إلى علمها من الناحية العلمية أبداً، فإن شاء الله أطلعنا عليها وإن لم يشأ فلا حيلة لنا.